لا مانع شرعاً من قبول هدايا الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم، إذا كانت الهدية مباحة في شرعنا كأن تكون مالاً (أوراقاً نقدية) أو فاكهة، أما لو كانت لحم خنزير أو خمراً أو مما يذبحونه لأعيادهم أو لغير الله؛ فلا تقبل لحرمتها في شرعنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدايا الكفار(1)، حتى لو كانت الهدايا بمناسبة أعيادهم يجوز قبولها، لا يضر ذلك، العيد لا يؤثر في قبولها؛ كون قبولها لا يعينهم على شعائرهم. فله أن ينتفع بها.
فالذي وجدته عن السلف من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان التفريق بين مشاركتهم بأعيادهم والاحتفال معهم، والرضا بما هم عليه من الاحتفال بالكفر، وتهنئتهم بها، وبين قبول هداياهم في أعيادهم، فيحرمون الأول ويشددون فيه، ويجيزون قبول الهدايا منهم حتى لو كانت بمناسبة أعيادهم. والله أعلم
راجع مصنف ابن أبي شيبة (5/ 126)، والسنن الكبرى للبيهقي (9/ 392).
قال ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 51): وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم، فقد قدمنا عن علي -رضي الله عنه- أنه أتي بهدية النيروز فقبلها. وروى ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه أن امرأة سألت عائشة، قالت: إن لنا أظآراً من المجوس، وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا. فقالت: "أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم ". وقال: حدثنا وكيع عن الحسن بن حكيم، عن أمة عن أبي برزة: أنه كان له سكان مجوس، فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: " ما كان من فاكهة فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه".
فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم. لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة بنفسها؛ فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه، وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم، بابتياع أو هدية، أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد، فأما ذبائح المجوس، فالحكم فيها معلوم، فإنها حرام عند العامة. انتهى
وللفائدة نذكر ما يتعلق بمشاركتهم أعيادهم
سئل ابن تيمية (25/ 329): عمن يفعل من المسلمين: مثل طعام النصارى في النيروز. ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس والميلاد وخميس العدس وسبت النور، ومن يبيعهم شيئاً يستعينون به على أعيادهم، أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئاً من ذلك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك. ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة.
وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم.
وأما إذا أصابه المسلمون قصداً فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف.
وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء.
بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر.
وقال طائفة منهم: من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيراً. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة.
وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: "نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".
فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجباً حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار وقال: "لا وفاء لنذر فيمعصية الله" . فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية، فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟
بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين؛ أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين، وإنما يعملونها سراً في مساكنهم، فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخط ينزل عليهم ".
وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهياً عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم. فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟
وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزور} قالوا: أعياد الكفار.
فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها؟!
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وفي لفظ: "ليس منا من تشبه بغيرنا" وهو حديث جيد.
فإذا كان هذا في التشبه بهم وإن كان من العادات، فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟! .
وقد كره جمهور الأئمة - إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه - أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم، إدخالاً له فيما أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب، وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة، وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحة عيدهم لا لحماً ولا دماً ولا ثوباً ولا يعارون دابة، ولا يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك، فكيف على ما هو من شعائر الكفر؟! وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو، فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك؟! والله أعلم. قاله أحمد ابن تيمية. انتهى
وانظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 509). والله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر صحيح البخاري (3/ 163، 2615 فما بعده )
جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم